تطور الشعور الديني لدى الأطفال والمراهقين

يُعد الشعور الديني من أبرز المكونات النفسية والثقافية في الإنسان، ويكتسب أهمية خاصة عندما نتحدث عن مراحل الطفولة والمراهقة، إذ تمثل هذه الفترات مراحل تأسيسية في تشكيل الهوية الدينية للفرد. فالشعور الديني ليس سلوكاً مكتسباً فحسب، بل هو استعداد نفسي ينمو ويتبلور مع النضج العقلي والعاطفي والاجتماعي. وتظهر الدراسات النفسية والاجتماعية أن النشأة الدينية لا تقتصر على مجرد تكرار الطقوس أو حفظ النصوص، بل تنطوي على عملية معقدة من التفاعل بين الطفل وبيئته، تتشكل من خلالها مفاهيمه عن الله، الخير، الشر، العدالة، الروح، والغاية من الحياة.

مراحل تطور الشعور الديني

ينقسم تطور الشعور الديني إلى مراحل متعاقبة تختلف من حيث العمق، والوعي، والتجربة الذاتية. وقد تناول العديد من الباحثين هذه المراحل، أبرزهم عالم النفس السويسري جان بياجيه، الذي رأى أن النضج العقلي يرتبط بتطور التفكير المجرد، وهو ما له أثر مباشر على المفاهيم الدينية. بينما قدم عالم النفس الأمريكي جيمس فاولر نموذجًا متكاملاً لمراحل الإيمان الديني، شمل ستة أطوار تبدأ منذ الطفولة المبكرة وحتى الرشد.

1. المرحلة الحسية – الحركية (من الميلاد حتى عمر 2 سنة)

في هذه المرحلة، لا يوجد إدراك ديني بالمعنى المفاهيمي، إلا أن الأساس الشعوري يبدأ بالتكون من خلال الحميمية الجسدية والنفسية بين الطفل والأم، والتي تعزز مشاعر الثقة، وهي الأرضية التي ستمهد لاحقاً لاستقبال المفاهيم الدينية المرتبطة بالحماية الإلهية والأمان الروحي.

2. المرحلة الحدسية – الخيالية (من عمر 2 إلى 7 سنوات)

تُبنى المفاهيم الدينية هنا على أساس الخيال والتقليد والمشاعر، إذ يبدأ الطفل بسماع القصص الدينية، وتكوين صور ذهنية عن الذات الإلهية والملائكة والجنة والنار. غالباً ما تكون هذه المفاهيم مشبعة بالصور الحسية، ويصعب على الطفل في هذا العمر التفريق بين الحقيقة والمجاز. فالله بالنسبة له قد يُفهم على أنه كائن خارق يعيش في السماء ويراقب الأفعال، وهذا النوع من التصور يساعد على تشكيل البعد الأخلاقي في تفكيره، وإن كان بشكل بدائي.

3. المرحلة الأسطورية – التلقينية (من عمر 7 إلى 12 سنة)

تُميز هذه المرحلة بتزايد قدرة الطفل على استيعاب التسلسل الزمني والتفكير القصدي. في هذا السن، يتقبل الطفل التعاليم الدينية من أسرته ومعلميه دون نقاش كبير، ويبدأ بممارسة الشعائر الدينية كتقليد اجتماعي، وليس كقناعة شخصية ناضجة. ما يُقال له يُصدّق، وتبدأ مفاهيم مثل الجنة، النار، الثواب، والعقاب في التغلغل إلى منظومته الأخلاقية، ما يجعل من الدين عاملاً رئيسيًا في ضبط السلوك.

4. المرحلة النمطية – الجماعية (المراهقة المبكرة)

تبدأ هذه المرحلة تقريباً من عمر 12 حتى 17 سنة، وتتميّز بنمو التفكير التجريدي والانخراط في الجماعات، مما يجعل الشعور الديني يتخذ طابعًا أكثر اجتماعيًا. يصبح المراهق أكثر قدرة على الربط بين المعتقدات والمواقف الأخلاقية، ويحاول أن يفهم مغزى الطقوس والقيم الدينية. كما تبدأ عملية المقارنة بين الدين الذي نشأ فيه وبين الأديان أو الثقافات الأخرى التي يتعرض لها من خلال المدرسة أو الإعلام.

في هذه المرحلة، قد يعاني المراهق من الشك والتساؤلات، وهذا أمر طبيعي وصحي إذا تم التعامل معه بحكمة من الأهل والمربين. فالنقاش الديني المنفتح يدعم نمو الشعور الديني بشكل سليم ومستدام، بينما القمع أو التلقين القسري قد يؤدي إلى النفور أو حتى الانسلاخ عن الدين.

5. المرحلة الفردية – الانعكاسية (المراهقة المتأخرة وبداية الرشد)

يبدأ الشعور الديني في هذه المرحلة بالتبلور بشكل أكثر خصوصية واستقلالية. يتراجع دور الجماعة إلى حد ما، وتبرز الحاجة للتفكير الشخصي العميق حول الإيمان، ومعنى الحياة، ووجود الله، والقدر، والحرية. يختبر الفرد قناعاته من خلال التجربة الشخصية، وقد يعيد ترتيب أولوياته الدينية بما يتوافق مع فهمه الخاص، دون أن يعني ذلك بالضرورة التمرد على الدين.

العوامل المؤثرة في تطور الشعور الديني

يتأثر الشعور الديني بعوامل متعددة تتفاعل فيما بينها بطريقة معقدة. ويمكن حصر أبرز هذه العوامل في المحاور التالية:

1. الأسرة

تلعب الأسرة دورًا محوريًا في غرس الشعور الديني، من خلال التفاعل اليومي، اللغة المستعملة، السلوكيات، وطريقة عرض المفاهيم الدينية. الأطفال لا يتعلمون فقط من النصوص أو الأوامر، بل يراقبون كيف يتصرف آباؤهم في مواقف الحياة المختلفة. إن لم يكن هناك اتساق بين ما يُقال وما يُمارس، سيؤدي ذلك إلى انقسام في الوعي الديني لدى الطفل.

2. البيئة المدرسية والتعليم الديني

توفر المدرسة بيئة تعليمية واجتماعية تؤثر بشكل مباشر في النضج الديني للمراهقين. طريقة تدريس المواد الدينية، أسلوب المعلمين، والانفتاح على النقاشات الفكرية، كلها عناصر تساهم في تعزيز الشعور الديني أو تهميشه.

3. وسائل الإعلام والمجال الرقمي

أصبح الإعلام الرقمي عاملاً رئيسيًا في تشكيل الوعي الديني، خصوصاً في عصر الانفتاح العالمي. الأطفال والمراهقون يتعرضون يوميًا لخطابات دينية متنوعة، ما قد يخلق حالة من التشتت أو الارتباك إذا لم تُرافق بتوجيه تربوي ناضج.

4. الثقافة السائدة

الثقافة الاجتماعية المحيطة، بما تحمله من رموز وقيم، تؤثر على نظرة الطفل أو المراهق إلى الدين. في المجتمعات التي يُنظر فيها للدين على أنه عبء أو أداة قمع، قد ينشأ الشعور الديني مشوّهًا أو عدائيًا. بينما في المجتمعات التي تحتفي بالتدين الواعي، يصبح الدين جزءًا طبيعيًا من الهوية الفردية والجماعية.

5. الخبرات الشخصية والوجودية

تؤثر المواقف الشخصية القوية، كالفقد، المرض، النجاح أو الفشل، في إيقاظ الشعور الديني لدى المراهقين. مثل هذه التجارب تدفعهم للتأمل في معاني الوجود، مما يفتح الباب نحو الإيمان أو إعادة تفسيره.

سمات الشعور الديني لدى الطفل مقابل المراهق

تحديات تطور الشعور الديني لدى المراهقين

يشهد المراهق صراعات داخلية معقدة تتعلق بالهوية، والحرية، والانتماء، والقيم. ويعد الدين من المجالات التي تثير الكثير من التساؤلات في هذه المرحلة، ومن أبرز التحديات:

• الازدواجية بين الدين والسلوك المجتمعي: يرى المراهق التناقض بين التعاليم الدينية والممارسات الاجتماعية في أسرته أو بيئته.

• الضغط الاجتماعي والإعلامي: تؤثر الثقافة السائدة، خصوصاً في البيئات العلمانية أو المتأثرة بالثقافات الغربية، على ميل المراهق للتشكيك أو الإعراض عن الدين.

• الخطاب الديني المتشدد أو الجامد: يُنفّر المراهقين من الدين عندما يتسم بالوعيد، أو يفتقر للرحمة، أو يركز فقط على الطقوس.

• ضعف القدوة: غياب الشخصيات الدينية القريبة من المراهقين، القادرة على الحوار، والفهم، والاحتواء.

استراتيجيات دعم تطور الشعور الديني

• الاحتواء العاطفي: إشعار الطفل والمراهق بالأمان والمحبة دون شروط، يُعد مدخلاً مهماً لاستيعاب القيم الدينية.

• توفير نماذج واقعية: وجود قدوة حسنة تجسد الإيمان في سلوكها يُسهل نقل الشعور الديني بطريقة طبيعية.

• فتح باب الحوار: تشجيع الأطفال والمراهقين على طرح الأسئلة دون خوف، والإجابة عليها بعمق وصدق.

• الدمج بين العقل والعاطفة: عدم الاقتصار على الجوانب العاطفية في الخطاب الديني، بل دعمها بالتفكير، والفهم، والتحليل.

• استخدام الوسائط الإبداعية: الاستفادة من الفن، القصص، المسرح، والفيديوهات التربوية لتقريب المفاهيم الدينية.

خاتمة

يُشكل الشعور الديني لدى الأطفال والمراهقين حجر الأساس في بناء الشخصية الروحية والأخلاقية للفرد، ويتطلب ذلك تربية متوازنة تعتمد على الفهم لا التلقين، وعلى التجربة لا القهر، وعلى الحوار لا القمع. إن تهيئة البيئة الدينية السليمة منذ الطفولة، وتقديم نماذج مرنة وعميقة من الإيمان، يُسهم في تكوين جيل متدين وواعٍ، يرى في الدين وسيلة لتحقيق السلام الداخلي، لا ساحة للصراع والضغط.

المراجع:

1. Fowler, J. W. (1981). Stages of Faith: The Psychology of Human Development and the Quest for Meaning. Harper & Row.

2. Piaget, J. (1952). The Origins of Intelligence in Children. International Universities Press.